بدت المدينة و كأنها خلت من ساكنيها .. مطر ينهمر .. كل شيئ مبلل .. و كأنه شجرة على الطريق .. بدا مبللا كما لو قضى ألف شتاء تحت المطر .. كان يمشي بخطى واثقة .. وحيدا و مصابيح الطريق .. ينظر اليها واحدا تلو الأخر .. و صدر مكشوف تسيل عليه مياه الشتاء , لا يشعر بالبرد .. رغم رشقات المياه كلما مرت سيارة على
الطريق .. كان يمشي و حسب .. لا يكترث بكل ما حوله من السكون و الظلام ..
اقترب من احدى الدكاكين على الطريق .. وقف على مقربة من الباب و فتحه بيده .. مد رأسه إلى الداخل دون أن يخطو خطوة ..
مرحبا ..
البائع : تفضل يا سيدي .. كيف أساعدك ..
أخرج المتسول ورقة نقدية مبتلة من جيبه .. صوبها نحو البائع ..
هل لي بخبز و قطعة من الجبن إذا تكرمت ...
نظر البائع إليه بنظرة شفقة ..
لما لا تدخل أولا يا سيدي ..
المتسول : لا أريد أن يتسخ المكان فقدماي ملطخة بالماء والوحل ..
البائع : كما تريد .. لكن ارجع نقودك إلى جيبك .. سوف أعطيك ما تريد ..
ابتسم المتسول : و هل مكتوب على جبيني أنني متسول ؟
ابتسم البائع .. ليس بالضرورة على جبينك .. ربما على لحيتك المبتلة أو ثيابك البالية .. أو على صدرك العاري .. لست أدري لكنني أستطيع أن أقرأ ذلك في مكان ما .. لا عليك .. لك ما تريد ..
المتسول : لكنني لن أخذ شيئا إذا لم تأخذ نقودك و مد يده بالنقود مجددا ..
البائع : و لم لا ؟
المتسول : لقد انتهى عملي لهذا اليوم ..
قهقه البائع و أخذ يتكلم بصوت يخالطه الضحك : أعجبني ذلك .. عمل !! مد يده نحو النقود و أخذها ضاحكا ثم نظر اليها مخاطبا المتسول : و هل تريد خبزا مبتلا مثل نقودك ؟
ضحك المتسول .. لا يهم .. فانه لن يبقى جافا لمدة طويلة ..
ناوله البائع الخبز و الجبن .. أدار المتسول ظهره مغادرا .. صرخ البائع : انتظر .. سأعطيك الباقي ..
المتسول : احتفظ بالباقي لأجلك يا سيدي ..
ضحك البائع مجددا .. والله يا هذا لقد أضحكتني كما لم أفعل منذ وقت طويل .. غريب أمرك أنا لم أرى متسولا بكرمك من قبل ..
ابتسم المتسول : ألم أقل لك أنني انتهيت من عملي اليوم .. عمت مساء يا سيدي ..
البائع : انتظر يا هذا .. و هل تعني حقا ما تقول .. أعني .. هل تعتبره عملا ؟
المتسول : نعم يا سيدي .. أنا أعتبره عملا .. ألا يبدو على وجهي الشقاء ؟
البائع : بلى .. ولكن ..
المتسول مقاطعا : أولا يجب أن أتقاضى أجرا لشقائي هذا ؟ دعنا نرى يا سيدي .. أنت تقف هنا و تنعم بكل هذا الدفء و الجفاف بثياب مرتبة و ذقن ناعم .. و لا يبدو عليك أي مظهر للشقاء .. بل تبدو سيدا محترما ممن يدفعون الأجور لا من يأخذونها .. لكنك رغم ذلك تتقاضى أجرا.. أليس كذلك ؟
البائع : نعم .. و كيف لي أن أعمل بدون مقابل ؟
المتسول : و أنا مثلك .. لكنني أشقى كثيرا مقابل القليل من المال .. و أحتمل كل نظرات المارة .. و برد الشتاء و حر الصيف .. و عطف الطيبين و عطاء المذنبين .. أتصدق ؟ أتعمد أن لا أنظر إلى وجه من يعطيني نقودا ..
البائع : لماذا .. هل تخجل من عملك ؟
المتسول : لا يا سيدي .. ليس خجلا .. لكنني أحس بأنني إن نظرت إلى وجوههم .. فسأراهم أكثر شقاء مني .. و عندها لن أخذ نقودهم .. ضحك المتسول و تابع حديثه .. صدقني أن الأغنياء يبدون أكثر شقاء من القفراء .. و إن كنت لا تقرأ ذلك في ثيابهم و لا وجوههم و لا سياراتهم الفارهة .. لكنه مكتوب في مكان ما .. لست أدري .. تماما كما تستطيع أن تقرأ أنني متسول .. أستطيع أن أقرأ أنهم أشقياء ..
البائع : صدقت يا هذا .. كل شقي و كل يحسد الأخر على راحته .. و لا أحد يعلم من فينا هنيئ بعيشه و من فينا شقي .. أتصدق .. عندما دخلت إلى هنا .. للحظة حسدتك على ما أنت فيه .. فأنت تتلقى نقودا دون مقابل .. كما كنت أعتقد .. كما حسدتني تماما على الدفء و المظهر الجميل .. هكذا ظننت دائما .. أن المتسول هو شخص كسول .. لا يحب التعب .. فيبيع كرامته مقابل المال .. لأنه لا يملك بضاعة أخرى يتاجر بها ..
ضحك المتسول : .. لا يا سيدي .. أنا لا أبيع كرامتي .. و إنما أشتري عطف الناس .. صدقني أن الكثيرين ممن يبدو عليهم الاحترام .. يبيعون كرامتهم بأرخص مما تتوقع .. و لو لم يفعلو ذلك .. لوجدتهم ملقى بهم على قارعة الطريق .. أي لكانوا زملائي في المهنة ..
ضحك البائع : والله لقد بدأت أقتنع بكلامك .. ولكن لم تقل لي .. ما الذي دفع بك إلى هذا العمل ؟
المتسول مبتسما : لا تسأل أحدا يا سيدي عن مصدر رزقه .. في هذه الأيام لك فقط أن تسأل إن كان يعمل أم لا .. لقد وزع الله أرزاقنا في السماء .. لكننا فقط نختار كيفية الحصول عليها .. و معظمنا يختار أسهل الطرق ..
أترى .. لقد طال الحديث بيننا .. و أنا واقف هنا .. ألم أقل لك أنه لا يهم إن كان الرغيف مبتلا أم لا .. ها قد أصبح مبتلا قبل أن أخرج من عندك .. تماما مثل نقودي .. هكذا نصبح سواء ..
ضحك البائع بأعلى صوت من أعماقه .. لا لسنا سواء .. لا زلت مدينا لك بالإكرامية .. إذا فلتأتي إلي في المرة القادمة قبل أن تنهي عملك و أعطيك ما تريد بدون مقابل .. هكذا نصبح سواء ..
ضحك المتسول من أعماقه حتى دمعت عيناه .. قبل أن انهي عملي !!! تابع الضحك .. يعجبني انك اعتبرته الآن عملا .. و هم بالخروج ..
صاح البائع : قبل أن تغادر .. لم تقل لي ما اسمك ؟
المتسول ممسكا بمقبض الباب : أنا .. و ماذا يهم ؟ أنا متسول شتاء !! ضحك الاثنان و أغلق الباب بينهما .. و خلى المكان من أي شيئ سوى من صوت ضحكهما و مصابيح الطريق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق